فصل: تلوّم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


تلبية

التّعريف

1 - التّلبية لغة‏:‏ إجابة المنادي، وهي إمّا في الحجّ وإمّا في غيره كالوليمة والتّلبية في غير الحجّ‏.‏ وقد سبق الكلام عنها في مصطلح ‏(‏إجابة ج /1 ص /251‏)‏‏.‏

وأمّا في الحجّ فالمراد بها قول المحرم‏:‏ لبّيك اللّهمّ لبّيك‏.‏ أي‏:‏ إجابتي لك يا ربّ‏.‏ يقال‏:‏ لبّى الرّجل تلبية‏:‏ إذا قال لبّيك‏.‏ ولبّى بالحجّ كذلك‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ معنى لبّيك إجابة لك بعد إجابة‏.‏ وفي حديث الإهلال بالحجّ‏:‏ «لبّيك اللّهمّ لبّيك»‏:‏ هو من التّلبية، وهي إجابة المنادي أي‏:‏ إجابتي لك يا ربّ‏.‏ وعن الخليل أنّ تثنية كلمة ‏(‏لبّيك‏)‏ على جهة التّوكيد‏.‏ والإجابة وإن كانت لا تخرج في معناها الاصطلاحيّ عن هذا إلّا أنّه قد ورد في الخرشيّ على مختصر خليل‏:‏ أنّ معنى التّلبية الإجابة‏:‏ أي‏:‏ إجابة بعد إجابة وذلك أنّ اللّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالوا بَلَى‏}‏ فهذه إجابة واحدة، والثّانية‏:‏ إجابة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَذِّنْ في النَّاسِ بِالحَجِّ‏}‏ يقال‏:‏ إنّ إبراهيم عليه السلام لمّا أذّن بالحجّ أجابه النّاس في أصلاب آبائهم فمن أجابه مرّة حجّ مرّة، ومن زاد زاد‏.‏ فالمعنى أجبتك في هذا كما أجبتك في ذلك‏.‏

وأوّل من لبّى الملائكة، وهم أيضا أوّل من كان بالبيت‏.‏ ومعنى لبّيك كما في حاشية الطّحطاويّ على مراقي الفلاح‏:‏ أقمت ببابك إقامة بعد أخرى وأجبت نداءك مرّة بعد أخرى‏.‏ وفي الفواكه الدّواني‏:‏ أجبتك يا ألّله إجابة بعد إجابة‏.‏ أو لازمت الإقامة على طاعتك من ألبّ بالمكان إذا لزمه وأقام به‏.‏ وهي مثنّاة لفظا ومعناها التّكثير لا خصوص الاثنين‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - تلبية المحرم مستحبّة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة لما روى سهل بن سعد قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما من مسلم يلبّي إلا لبّى عن يمينه وعن شماله من حجر أو شجر أو مدر حتّى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا»‏.‏

وهي واجبة عند المالكيّة‏.‏

صيغتها المتّفق عليها بين الفقهاء

3 - وهي تلبية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

كما جاء في خبر الصّحيحين عن ابن عمر أنّ تلبية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏

«لبّيك اللّهمّ لبّيك‏.‏ لبّيك لا شريك لك لبّيك‏.‏ إنّ الحمد والنّعمة لك والملك لا شريك لك»‏.‏

وهل للمحرم أن يزيد عليها أو ينقص منها‏؟‏‏.‏

قال الشّافعيّ وهو قول لمالك‏:‏ إن زاد على هذا فلا بأس‏.‏ لما روي أنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يزيد فيها‏:‏ لبّيك وسعديك والخير كلّه بيديك والرّغبة إليك والعمل‏.‏

وإذا رأى شيئاً يعجبه قال‏:‏ لبّيك إنّ العيش عيش الآخرة‏.‏ لما روي «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم والنّاس يصرفون عنه كأنّه أعجبه ما هم فيه‏.‏ فقال‏:‏ لبّيك إنّ العيش عيش الآخرة»‏.‏

وذهب الحنابلة وهو قول آخر لمالك إلى أنّه لا يستحبّ الزّيادة على تلبية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا تكره، وذلك لقول جابر‏:‏ «فأهلّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالتّوحيد لبّيك اللّهمّ لبّيك‏.‏ لبّيك لا شريك لك لبّيك‏.‏ إنّ الحمد والنّعمة لك والملك لا شريك لك» وأهلّ النّاس بهذا الّذي يهلّون‏.‏ ولزم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تلبيته‏.‏ وكان ابن عمر يلبّي بتلبية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويزيد مع هذا «لبّيك‏.‏ لبّيك‏.‏ وسعديك والخير بيديك والرّغباء إليك والعمل»‏.‏

وزاد عمر لبّيك مرغوباً ومرهوباً إليك ذا النّعماء والفضل الحسن‏.‏

ويرى أنّ أنساً كان يزيد لبّيك حقّاً حقّاً تعبّداً ورقّاً‏.‏ وهذا يدلّ على أنّه لا بأس بالزّيادة ولا تستحبّ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لزم تلبيته فكرّرها ولم يزد عليها‏.‏

والقول الثّالث لمالك‏:‏ كراهة الزّيادة على التّلبية المأثورة عن الرّسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّه يندب له أن يزيد عليها ويكره له إنقاصها، وتكون الزّيادة عليها ممّا هو مأثور فيقول‏:‏ لبّيك وسعديك والخير كلّه بيديك والرّغباء إليك إله الخلق لبّيك بحجّة حقّا تعبّدا ورقّا‏.‏ لبّيك إنّ العيش عيش الآخرة‏.‏ وما ليس مرويّاً فجائز وحسن‏.‏

بم تصحّ التّلبية‏؟‏

4 - تصحّ التّلبية عند الحنفيّة والشّافعيّة بغير العربيّة وإن أحسن العربيّة إلا أنّ العربيّة أفضل‏.‏ وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ غير العربيّ يلبّي بلسانه إن لم يقدر عليها بالعربيّة كأن لم يجد من يعلّمه العربيّة، ومفاد هذا أنّ العربيّ القادر عليها بالعربيّة لا يلبّي بغيرها لأنّه ذكر مشروع فلم تشرع بغير العربيّة مع القدرة عليها كالأذان والأذكار المشروعة في الصّلاة فإن لم يقدر على العربيّة لبّى بلغته كالتّكبير في الصّلاة‏.‏

رفع الصّوت بالتّلبية

5 - استحبّ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة للمُحْرم أن يرفع صوته بالتّلبية لما روى زيد بن خالد الجهنيّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «جاءني جبريل عليه السلام فقال‏:‏ يا محمّد مُرْ أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتّلبية فإنّها من شعائر الحجّ»‏.‏

وقال أبو حازم‏:‏ كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا يبلغون الرَّوحَاء حتّى تبحّ حلوقهم من التّلبية‏.‏

وقال سالم‏:‏ كان ابن عمر يرفع صوته بالتّلبية فلا يأتي الرّوحاء حتّى يَصْحَل صوته‏.‏

ولا يجهد نفسه في رفع الصّوت بها زيادة على الطّاقة لئلا ينقطع صوته وتلبيته‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ التّوسّط فيه مندوب فلا يسرّه الملبّي حتّى لا يسمعه من يليه، ولا يبالغ في رفعه حتّى يعقره فيكون بين الرّفع والخفض ولا يبالغ في أيّهما، وفي الفواكه الدّواني‏:‏ هذا في غير المسجد لأنّه لا يجوز رفع الصّوت فيه إلا المسجد الحرام ومسجد منى لأنّهما بنيا للحجّ، وقيل‏:‏ للأمن فيهما من الرّياء‏.‏

هذا في حقّ الرّجال‏.‏ أمّا النّساء فإنّه لا خلاف بين الفقهاء في كراهة رفع أصواتهنّ بالتّلبية إلا بمقدار ما تسمع المرأة نفسها أو رفيقتها، فقد روي عن سليمان بن يسار قال‏:‏ السّنّة عندهم أنّ المرأة لا ترفع صوتها بالإهلال وإنّما كره لها رفع الصّوت مخافة الفتنة بها ومثلها الخنثى المشكل في ذلك احتياطاً‏.‏

الإكثار من التّلبية

6 - استحبّ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة للمحرم أن يكثر من التّلبية لأنّها شعار النّسك فيلبّي عند اجتماع الرّفاق، أو متى علا شرفا أو هبط واديا، وفي أدبار الصّلوات، وإقبال اللّيل والنّهار‏.‏ لما روى جابر قال‏:‏ «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يلبّي إذا رأى ركبا، أو صعد أكمة، أو هبط واديا، وفي أدبار المكتوبة وآخر اللّيل» ولأنّ في هذه المواضع ترفع الأصوات ويكثر الضّجيج‏.‏

وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أفضل الحجّ العجّ والثّجّ»‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ التّوسّط في ذلك مندوب، فلا يكثر المحرم من التّلبية حتّى يملّها ويلحقه الضّرر، ولا يقلّلها حتّى يفوت المقصود منها وهو الشّعيرة‏.‏

متى تبدأ التّلبية

7 - من الأمور المستحبّة لمريد الإحرام بحجّ أو عمرة أو بهما معا متى بلغ ميقاته أن يصلّي ركعتين بنيّة الإحرام في غير وقت كراهة، وتجزئ المكتوبة، فإن كان مفردا بالحجّ قال بلسانه المطابق لجنانه‏:‏ اللّهمّ إنّى أريد الحجّ فيسّره لي وتقبّله منّي، كما يفعل ذلك أيضا المعتمر والقارن، ويشير إلى نوع نسكه ثمّ يلبّي دبر صلاته‏.‏ وبهذه التّلبية يكون محرما وتسري عليه أحكام الإحرام‏.‏ هذا ما عليه فقهاء المذاهب الأربعة‏.‏

وله الإحرام بها إذا استوت به راحلته، وإذا بدأ السّير سواء لأنّ الجميع قد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من طرق صحيحة‏.‏

قال الأثرم‏:‏ سألت أبا عبد اللّه‏:‏ أيّهما أحبّ إليك‏.‏ الإحرام في دبر الصّلاة، أو إذا استوت به راحلته‏؟‏ فقال‏:‏ كلّ ذلك قد جاء في دبر الصّلاة إذا علا البيداء‏.‏

متى تنتهي التّلبية

8 - تنتهي التّلبية بالنّسبة للحاجّ ابتداء من رمي جمرة العقبة يوم النّحر عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة فيقطعها مع أوّل حصاة لأخذه في أسباب التّحلّل، ويكبّر بدل التّلبية مع كلّ حصاة‏.‏ فقد روى جابر «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا أتى إلى منى لم يعرّج إلى شيء حتّى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات وقطع التّلبية عند أوّل حصاة رماها، ثمّ كبّر مع كلّ حصاة، ثمّ نحر، ثمّ حلق رأسه، ثمّ أتى مكّة فطاف بالبيت»‏.‏

وروى الفضل بن العبّاس «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبّي حتّى رمى جمرة العقبة» وكان الفضل رديفه يومئذ وهو أعلم بحاله من غيره‏.‏

ولأنّ التّلبية للإحرام فإذا رمى فقد شرع في التّحلّل فلا معنى للتّلبية‏.‏

وللمالكيّة قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ يستمرّ في التّلبية حتّى يبلغ مكّة فيقطع التّلبية حتّى يطوف ويسعى ثمّ يعاودها حتّى تزول الشّمس من يوم عرفة ويروح إلى مصلاها‏.‏

والثّاني‏:‏ يستمرّ في التّلبية حتّى الشّروع في الطّواف، والأوّل في رسالة ابن أبي زيد‏.‏ وشهره ابن بشير، والثّاني في المدوّنة في قول يقطع التّلبية حين يبتدئ الطّواف‏.‏

أمّا المعتمر فيقطع التّلبية متى شرع في الطّواف واستلم الحجر عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ لما روى ابن عبّاس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «يلبّي المعتمر حتّى يستلم الحجر» وأمّا المالكيّة فالمعتبر عندهم أنّ معتمر الميقات من أهل الآفاق وفائت الحجّ أي‏:‏ المعتمر لفوات الحجّ يلبّي كلّ منهما للحرم لا إلى رؤية البيوت، ومعتمر الجعرانة والتّنعيم يلبّي للبيوت أي‏:‏ إلى دخول بيوت مكّة لقرب المسافة استدلالا بما رواه نافع عن ابن عمر من فعله في المناسك قال‏:‏ وكان يترك التّلبية في العمرة إذا دخل الحرم ينظر في تفصيل ذلك‏:‏ حجّ - إحرام‏.‏

تلجئة

انظر‏:‏ بيع التّلجئة‏.‏

تلف

التّعريف

1 - التّلف لغة‏:‏ الهلاك والعطب في كلّ شيء ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ‏.‏ والإتلاف‏:‏ إحداث التّلف، وينظر لتفصيله مصطلح‏:‏ ‏(‏إتلاف‏)‏‏.‏

والتّلف في باب المضاربة مخصوص بالنّقص الحاصل لا عن تحريك، بخلاف الخسر فهو ما نشأ عن تحريك‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - التّلف يتعلّق به خطاب الوضع، وتترتّب عليه آثار أهمّها الضّمان‏.‏

والتّلف لا يوصف بحلّ أو حرمة، وإنّما ينظر فيمن يضمن التّلف‏.‏

أمّا الإتلاف، فهو إحداث التّلف، وتفصيل أحكامه في مصطلح‏:‏ ‏(‏إتلاف‏)‏‏.‏

أسباب التّلف

3 - التّلف إمّا أن يكون بعارض سماويّ، وهو ما يعبّر عنه بالآفة السّماويّة أو بالجائحة، وإمّا أن يكون بفعل من المخلوق، وهذا يقسّمه الفقهاء إلى نوعين‏:‏ تلف حسّيّ، وتلف شرعيّ، ويسمّيه المالكيّة التّلف الحكميّ‏.‏

فالتّلف الحسّيّ‏:‏ هو هلاك العين نفسها، سواء أتى عليها كلّها أو بعضها‏.‏

والتّلف الشّرعيّ ‏"‏ الحكميّ ‏"‏‏:‏ هو منع الشّارع من الانتفاع بالعين مع بقائها بسبب من المتلف، سواء أكان المنع عامّا يدخل فيه التّلف وغيره، كما في العين، أم مباحا للمتلف دون غيره كما في وطء الأمة، أم كان مباحا لغير المتلف كما في الصّدقة والهبة‏.‏

وقد ذكر الفقهاء له صورا منها، ما لو اشترى أمة فأعتقها أبوه قبل قبضها، وذلك لأنّ الشّارع جعل عتق أبيه كعتقه، حيث رتّب عليه حكمه، ومثله الكتابة، والتّدبير، والصّدقة، والهبة‏.‏

وهذا التّقسيم باعتبار المتلف، أمّا باعتبار المحلّ، فهو إمّا أن يرد على النّفس والأعضاء، وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏جناية، ودية، وقصاص‏)‏‏.‏

وإمّا أن يرد على الأموال، وهو المقصود هنا‏.‏

أوّلاً‏:‏ أثر التّلف في العبادات

أ - تلف زكاة المال‏:‏

4 - ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ الزّكاة لا تسقط بتلف المال بعد الحول، ويجب على المزكّي الضّمان، وذلك لأنّها مال وجب في الذّمّة فلم يسقط بتلف النّصاب، كالدّين، فضمنها بتلفها في يده‏.‏ فلا يعتبر بقاء المال‏.‏

وقيّد المالكيّة والشّافعيّة هذا الحكم بقيدين‏:‏ التّمكّن من الأداء، والتّفريط من ربّ المال‏.‏ فإن تلف المال بعد التّمكّن من الأداء أو بتفريط من ربّ المال فلا تسقط الزّكاة عنه، ويجب عليه الضّمان‏.‏

ولم يعتبر الحنابلة هذين القيدين وأوجبوا الضّمان مطلقا واعتبروا إمكان الأداء شرطا لوجوب الإخراج لا لوجوب الزّكاة‏.‏ لمفهوم قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليس في مال زكاة حتّى يحول عليه الحول» فإنّه يدلّ على الوجوب بعد الحول مطلقاً‏.‏

ولأنّها حقّ الفقير، فلم يعتبر فيها إمكان الأداء كدين الآدميّ، ولأنّه لو اشترط لم ينعقد الحول الثّاني، حتّى يتمكّن من الأداء‏.‏ وليس كذلك بل ينعقد عقب الأوّل إجماعاً، ولأنّها عبادة فلا يشترط لوجوبها إمكان الأداء كسائر العبادات‏.‏

وعن أحمد رواية باعتبار التّمكّن من الأداء مطلقا أي ولو بلا تفريط، واختارها ابن قدامة‏.‏

واستثنوا من ذلك الزّرع والثّمر إذا تلف بجائحة قبل القطع، فإنّ زكاتهما تسقط، فإن بقي بعد الجائحة ما تجب فيه الزّكاة زكّاه، قال ابن المنذر‏:‏ أجمع أهل العلم على أنّ الخارص إذا خرص الثّمر ثمّ أصابته جائحة فلا شيء عليه إذا كان قبل الجذاذ، ولأنّه قبل الجذاذ في حكم ما لا تثبت اليد عليه، بدليل أنّه لو اشترى ثمره فتلفت بجائحة رجع بها على البائع‏.‏ وزاد المالكيّة في تلف المواشي قيدا ثالثا وهو مجيء السّاعي، فإذا تلفت أو ضاعت بعد الحول وقبل مجيء السّاعي فلا يحسب ما تلف أو ضاع، وإنّما يزكّى الباقي إن كان فيه زكاة، وذلك لأنّهم يعتبرون مجيء السّاعي شرط وجوب، وكذلك تسقط الزّكاة عندهم عنها لو تلفت بعد مجيء السّاعي والعدّ وقبل أخذه، وذلك لأنّ مجيئه شرط في الوجوب وجوبا موسّعا إلى الأخذ، كدخول وقت الصّلاة، فقد يطرأ أثناء الوقت ما يسقطها كالحيض، كذلك التّلف بعد المجيء والعدّ، وأمّا لو ذبح منها شيئا بغير قصد الفرار، أو باع شيئا كذلك بعد مجيء السّاعي وقبل الأخذ، ففيه الزّكاة، ويحسب علم المعتمد، وأمّا لو كان بقصد الفرار فتجب زكاته، ولو كان ذلك قبل الحول‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ الزّكاة تسقط بتلف المال بعد الحول سواء أتمكّن من الأداء أم لا‏.‏

وإن هلك بعض النّصاب سقط من الواجب فيه بقدر ما هلك منه لتعلّقها بالعين لا بالذّمّة، ولأنّ الشّرع علّق وجوبها بقدرة ميسّرة، والمعلّق بقدرة ميسّرة لا يبقى دونها، ويقصدون بالقدرة الميسّرة هنا وصف النّماء أي إمكان الاستثمار، لا مجرّد وجود النّصاب‏.‏

وأمّا إذا تلف المال بعد الحول بفعل المزكّي نفسه فإنّ الزّكاة لا تسقط عنه، وإن انتفت القدرة الميسّرة لبقائها تقديرا، زجرا له عن التّعدّي ونظرا للفقراء‏.‏

هذه الأحكام فيما إذا كان التّلف بعد حلول الحول، وأمّا إذا كان التّلف قبل حلول الحول فلا خلاف بين الفقهاء في سقوط الزّكاة عنه لعدم الشّرط، ولا خلاف بينهم في سقوط الزّكاة عنه إن أتلف ربّ المال قبل الحول إن لم يقصد الفرار منها، فإن قصد بالإتلاف الفرار من الزّكاة فاختلف الفقهاء على قولين‏:‏ فذهب الجمهور - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - إلى سقوط الزّكاة عنه مع الكراهة عند الشّافعيّة ومحمّد بن الحسن‏.‏

وذهب الحنابلة إلى عدم سقوط الزّكاة عنه‏.‏

ب - تلف المال بعد وجوب زكاة الفطر‏:‏

5 - ذهب الفقهاء - ومنهم الحنفيّة - إلى أنّ تلف المال بعد وجوب زكاة الفطر وبعد التّمكّن من أدائها لا يسقطها، بل تستقرّ في ذمّته اتّفاقا، وفرّق الحنفيّة بينها وبين زكاة المال بأنّ وجوب زكاة الفطر متعلّق بالقدرة الممكنة، وهي أدنى ما يتمكّن به العبد من أداء ما لزمه من غير حرج غالبا، أمّا زكاة المال فيتعلّق وجوبها بالقدرة الميسّرة، وهي ما يوجب يسر الأداء على المكلّف بعدما ثبت الإمكان بالقدرة الممكنة، ودوامها شرط لدوام الواجب الشّاقّ على النّفس كأكثر الواجبات الماليّة، حتّى سقطت الزّكاة والعشر والخراج بهلاك المال بعد التّمكّن من الأداء، لأنّ القدرة الميسّرة وهي وصف النّماء قد فاتت بالهلاك، فيفوت دوام الوجوب لفوات شرطه، بخلاف القدرة الممكنة فليس بقاؤها شرطا لبقاء الواجب‏.‏ أمّا إذا كان تلف المال قبل التّمكّن من الأداء ففي سقوط زكاة الفطر عند الشّافعيّة والحنابلة وجهان‏:‏ أصحّهما تسقط كزكاة المال، والثّاني‏:‏ لا تسقط‏.‏ وذهب المالكيّة إلى سقوط زكاة الفطر بالتّلف، إلّا أن يخرجها في غير وقتها فتضيع، فإنّه يضمنها حينئذ‏.‏

ج - تلف الأضحيّة‏:‏

6 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأضحيّة المعيّنة إذا تلفت فلا شيء على صاحبها ولا يلزمه بدلها - في الجملة - ويفرّق الحنفيّة في ذلك بين الموسر والمعسر‏.‏

وخصّوا القول بعدم الضّمان بالمعسر، قالوا‏:‏ لأنّ شراء الفقير للأضحيّة بمنزلة النّذر‏.‏

فإذا هلكت فقد هلك محلّ إقامة الواجب فيسقط عنه، وليس عليه شيء آخر بإيجاب الشّرع ابتداء، لفقد شرط الوجوب وهو اليسار‏.‏

وأمّا إن كان موسراً، فإنّه يجب عليه أن يضحّي شاة أخرى، لأنّ الوجوب في جملة الوقت، والأضحيّة المشتراة لم تتعيّن للوجوب، والوقت باق، وهو من أهل الوجوب فيجب‏.‏ وخصّ الشّافعيّة والحنابلة القول بعدم الضّمان بما إذا تلفت قبل التّمكّن من ذبحها، أو تلفت بغير تفريط منه، وأمّا إذا تلفت بعد التّمكّن من ذبحها أو بتفريط منه فأوجبوا عليه الضّمان‏.‏ وإن تعدّى أجنبيّ عليها فأتلفها، فعلى الأجنبيّ القيمة بلا نزاع، يأخذها المضحّي ويشتري بها مثل الأولى، وإن أتلفها المضحّي نفسه لزمه أكثر القدرين من قيمتها وثمن مثلها على الصّحيح عند الشّافعيّة، والصّحيح من مذهب الحنابلة أنّه يضمنها بالقيمة يوم التّلف‏.‏

د - تلف الهدي‏:‏

7 - من ساق هديا واجبا فعطب أو تعيّب بما يمنع الأضحيّة، أقام غيره مقامه، وصنع بالمعيب ما شاء، فإن كان المعيب تطوّعا فليس عليه غيره، وينحره ولا يأكل منه هو ولا غيره من الأغنياء ويضرب صفحة سنامه، ليعلم أنّه هدي للفقراء‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّه إن سرق الهدي الواجب، أو تلف بعد ذبحه أو نحره أجزأ، لأنّه بلغ محلّه‏.‏ أمّا إن سرق أو تلف قبل ذبحه أو نحره، فلا يجزئ ويلزمه البدل‏.‏

وأمّا الهدي المتطوّع به فلا بدل عليه، وإن سرق قبل ذبحه أو نحره‏.‏

ويرى الشّافعيّة أنّ هدي التّطوّع لا يضمن بالتّلف ولا بالإتلاف، لأنّه وإن تطوّع به مالكه فإنّ ملكيّته له لا تزول عنه بالتّطوّع، فله أن يتصرّف فيه بذبحه وأكله وبيعه وسائر التّصرّفات، لأنّ ملكه ثابت ولم ينذره، وإنّما وجد منه مجرّد نيّة ذبحه، وهذا لا يزيل الملك، كما لو نوى أن يتصدّق بماله، أو يعتق عبده، أو يطلّق امرأته، أو يقف داره، وفي قول شاذّ للشّافعيّة، إنّه إذا قلّد الهدي صار كالمنذور، والصّحيح الأوّل‏.‏

فإذا عطب وذبحه، قال صاحب الشّامل وغيره‏:‏ لا يصير مباحا للفقراء إلّا بلفظه، وهو أن يقول أبحته للفقراء أو المساكين، قال‏:‏ ويجوز لمن سمعه الأكل، وفي غيره قولان‏:‏ قال في الإملاء‏:‏ لا يحلّ حتّى يعلم الإذن، وقال في القديم والأمّ‏:‏ يحلّ وهو الأظهر‏.‏

ومذهب الشّافعيّة في الهدي الواجب أنّه يضمن بالإتلاف لا بالتّلف، فإن تلف من غير تفريط لم يضمنه، لأنّه أمانة عنده، فإذا هلكت من غير تفريط لم تضمن كالوديعة، وإن أصابه عيب وذبحه أجزأه، لأنّ ابن الزّبير أتي في هداياه بناقة عوراء، فقال‏:‏ إن كان أصابها بعدما اشتريتموها فأمضوها، وإن كان أصابها قبل أن تشتروها فأبدلوها، ولأنّه لو هلك جميعه لم يضمنه، فإذا نقص بعضه لم يضمنه كالوديعة‏.‏

وإن تلف بتفريط منه بأن أخّر ذبحه بعدما عطب في الطّريق حتّى هلك ضمنه، أو خالف فباع الهدي فتلف عند المشتري أو أتلفه لزمه قيمته أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التّلف كما في المجموع، ويشتري النّاذر بتلك القيمة مثل التّالف جنسا ونوعا وسنّا، فإن لم يجد بالقيمة المثل لغلاء حدث لزمه أن يضمّ من ماله إليها تمام الثّمن، وهذا معنى قول الأصحاب يضمن ما باعه بأكثر الأمرين من قيمته ومثله‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن تلفت المعيّنة هديا أو ضلّت أو سرقت ولو قبل الذّبح فلا بدل عليه إن لم يفرّط، لأنّه أمين‏.‏ وإن عيّن عن واجب في الذّمّة ما يجزئ فيه، كالمتمتّع يعيّن دم التّمتّع شاة أو بقرة أو بدنة، أو عيّن هديا بنذره في ذمّته، وتعيّب أو تلف أو ضلّ أو سرق أو عطب ونحوه لم يجزئه، لأنّ الذّمّة لم تبرأ من الواجب بمجرّد التّعيين عنه، ولزمه بدله‏.‏

ثانياً‏:‏ التّلف في عقود المعاوضات

أ - تلف المبيع‏:‏

8 - تلف المبيع إمّا أن يكون كلّيّا أو جزئيّا، قبل القبض أو بعده، ولكلّ قسم أحكام‏.‏ والتّلف قد يكون بآفة سماويّة، وقد يكون بفعل المشتري، أو البائع، أو بفعل أجنبيّ‏.‏

تلف كلّ المبيع قبل القبض‏:‏

9 - إذا تلف المبيع كلّه قبل القبض بآفة سماويّة أو بفعل المبيع - بأن كان حيوانا فقتل نفسه - انفسخ البيع عند الجمهور، وهو رواية عن أحمد وسقط الثّمن عن المشتري، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يحلّ سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن» والمراد به ربح ما بيع قبل القبض، والمبيع قبل قبض المشتري له هو في ضمان البائع، ولأنّه لو بقي أوجب مطالبة المشتري بالثّمن، وإذا طالبه بالثّمن فهو يطالبه بتسليم المبيع، وأنّه عاجز عن التّسليم، فتمتنع المطالبة أصلاً‏.‏ فلم يكن في بقاء البيع فائدة فينفسخ، وإذا انفسخ البيع سقط الثّمن عن المشتري، لأنّ انفساخ البيع ارتفاعه من الأصل كأن لم يكن‏.‏ وذهب الحنابلة في المكيل والموزون إلى مثل قول الجمهور، وفي غيرهما يهلك قبل القبض على حساب المشتري، ومثل المكيل والموزون ما بيع برؤية أو صفة متقدّمة‏.‏ واحتجّوا بحديث «الخراج بالضّمان»‏.‏

وأمّا إذا كان التّلف بفعل البائع فإنّ حكمه كالتّلف بآفة سماويّة عند الحنفيّة والشّافعيّة‏.‏

وذهب الحنابلة في المبيع إذا كان مكيلا أو موزونا أو نحوهما إلى تخيير المشتري بين الفسخ وأخذ الثّمن الّذي دفعه إن كان، وبين إمضاء البيع، ويطالب المشتري متلفه البائع بمثله إن كان مثليّا وإلا فبقيمته، لأنّ الإتلاف كالعيب وقد حصل في موضع يلزم البائع ضمانه، فكان للمشتري الخيار كالعيب في المبيع‏.‏

أمّا إذا لم يكن المبيع مكيلا أو موزونا أو نحوهما لم ينفسخ البيع عندهم، ويطالب المشتري البائع بالقيمة‏.‏ وهذا قول مرجوح عند الشّافعيّة‏.‏

وفرّق المالكيّة بين أن يكون البيع على البتّ أو على الخيار، وبين أن يكون التّلف عمدا أو خطأ، فإذا كان البيع على البتّ فإتلاف البائع يوجب الغرم للمشتري، كان الضّمان منه أو من البائع، وسواء أكان الإتلاف عمداً أم خطأ‏.‏

10 - وإذا كان البيع على الخيار، فالخيار إمّا أن يكون للبائع أو للمشتري، فإذا كان الخيار للبائع انفسخ البيع سواء أكان الإتلاف عمدا أم خطأ‏.‏

وإذا كان الخيار للمشتري وكان إتلاف البائع للمبيع عمدا ضمن البائع للمشتري الأكثر من الثّمن أو القيمة، لأنّ للمشتري أن يختار الرّدّ إن كان الثّمن أكثر أو الإمضاء إن كانت القيمة أكثر‏.‏ وأمّا إذا كان إتلاف البائع للمبيع خطأ فينفسخ البيع‏.‏

11 - وإذا تلف كلّ المبيع بفعل المشتري فلا ينفسخ البيع وعليه الثّمن، لأنّه بالإتلاف صار قابضا كلّ المبيع، لأنّه لا يمكنه إتلافه إلّا بعد إثبات يده عليه، وهو معنى القبض فيتقرّر عليه الثّمن، سواء أكان البيع باتّا أم بالخيار عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

وقصر الحنفيّة والمالكيّة الحكم السّابق على البيع الباتّ، أو بشرط الخيار للمشتري، لأنّ خيار المشتري لا يمنع زوال البيع عن ملك البائع بلا خلاف، فلا يمنع صحّة القبض، فلا يمنع تقرّر الثّمن‏.‏ فإن كان البيع بشرط الخيار للبائع فذهب الحنفيّة إلى أنّ عليه ضمان مثله إن كان له مثل وقيمته إن لم يكن له مثل، لأنّ خيار البائع يمنع زوال السّلعة عن ملكه بلا خلاف، فكان المبيع على حكم ملك البائع، وملكه مضمون بالمثل أو القيمة‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ المشتري يضمن الأكثر من الثّمن والقيمة، لأنّه إذا كان الثّمن أكثر كان للبائع أن يجيز البيع في زمن الخيار لما له فيه من الخيار، وإن كانت القيمة أكثر من الثّمن فللبائع أن يردّ البيع لما له فيه من الخيار ويأخذ القيمة لا فرق في ذلك بين أن يكون التّلف عمدا أو خطأ، إلا أن يحلف المشتري أنّه ضاع بغير تفريط أو تلف بغير سببه، فإنّه يضمن الثّمن دون التفات إلى القيمة‏.‏ وهذا إذا كانت القيمة أكثر من الثّمن، فإن كان الثّمن أكثر من القيمة أو مساويا لها ضمن الثّمن من غير يمين‏.‏

12 - وإذا كان التّلف بفعل أجنبيّ فعليه ضمانه بلا خلاف بين الفقهاء - سواء أكان الإتلاف عمدا أم خطأ عند من يفرّق بينهما من الفقهاء - لأنّه أتلف مالا مملوكاً لغيره بغير إذنه ولا يد له عليه، فيكون مضمونا عليه بالمثل أو القيمة‏.‏

وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المشتري بالخيار إن شاء فسخ البيع فيعود المبيع إلى ملك البائع فيتبع الجاني فيضمّنه، وإن شاء اختار البيع فأتبع الجاني بالضّمان وأتبعه البائع بالثّمن‏.‏ وذهب الحنابلة إلى مثل قول الجمهور إذا كان المبيع مكيلاً أو موزوناً أو نحوهما‏.‏ فإن لم يكن كذلك هلك على حساب المشتري ويتبع المتلف بالضّمان‏.‏

تلف بعض المبيع قبل القبض

13 - إذا تلف بعض المبيع قبل القبض بآفة سماويّة، فالمشتري بالخيار بين فسخ العقد والرّجوع بالثّمن، وبين قبوله ناقصا ولا شيء له لقدرته على الفسخ‏.‏

هذا مذهب الشّافعيّة، وهو مذهب الحنابلة إذا كان المبيع مكيلا أو نحوه‏.‏

أمّا غير المكيل ونحوه فتلف بعضه وتعيّبه يكون على حساب المشتري ولا فسخ‏.‏

وفرّق الحنفيّة بين التّلف الّذي ينشأ عنه نقصان قدر،والتّلف الّذي ينشأ عنه نقصان وصف‏.‏ ونقصان الوصف وهو كلّ ما يدخل في البيع من غير تسمية، كالشّجر والبناء في الأرض وأطراف الحيوان والجودة في المكيل والموزون، فخصّوا الحكم السّابق بنقصان الوصف دون نقصان القدر، وذلك لأنّ الأوصاف لا حصّة لها من الثّمن إلا إذا ورد عليها القبض أو الجناية، لأنّها تصير مقصودة بالقبض أو الجناية‏.‏

وأمّا إذا كان التّلف قد نشأ عنه نقصان قدر - بأن كان مكيلا أو موزونا أو معدودا - فالعقد ينفسخ بقدر الهالك وتسقط حصّته من الثّمن، لأنّ كلّ قدر من المقدّرات معقود عليه، فيقابله شيء من الثّمن، وهلاك كلّ المعقود عليه يوجب انفساخ البيع في الكلّ وسقوط الثّمن‏.‏ فهلاك بعضه يوجب انفساخ البيع وسقوط الثّمن بقدره، والمشتري بالخيار في الباقي، إن شاء أخذه بحصّته من الثّمن، وإن شاء ترك لأنّ الصّفقة قد تفرّقت عليه‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّه إن كان الباقي بعد التّلف النّصف فأكثر لزم المشتري الباقي بحصّته من الثّمن ويرجع بحصّة ما تلف، وذلك لأنّ بقاء النّصف كبقاء الجلّ ‏(‏الأكثر‏)‏ فيلزمه، وهذا في المبيع المتعدّد‏.‏ فإن كان المبيع متّحدا كفرس مثلا وبقي بعد التّلف النّصف فأكثر فالمشتري بالخيار بين ردّ المبيع وأخذ ثمنه، وبين التّمسّك بالباقي بحصّته من الثّمن‏.‏

وإن كان الباقي بعد التّلف أقلّ من النّصف حرم التّمسّك بالباقي ووجب ردّ المبيع وأخذ جميع ثمنه لاختلال البيع بتلف جلّ المبيع، فتمسّك المشتري بباقيه كإنشاء عقد بثمن مجهول، إذ لا يعلم ما يخصّ الباقي إلا بعد تقويم الجميع، ثمّ النّظر فيما يخصّ كلّ جزء على انفراده إلا المثليّ فلا يحرم التّمسّك بالأقلّ، بل المشتري بالخيار بين فسخ البيع وبين التّمسّك بالباقي بحصّته من الثّمن، وذلك لأنّ المثليّ منابه ‏(‏مقابله‏)‏ من الثّمن معلوم، فليس التّمسّك بالباقي القليل، كإنشاء عقد بثمن مجهول، وإنّما يأتي هذا في المقوّم‏.‏

تلف بعض المبيع بفعل البائع قبل القبض

14 - أمّا إذا تلف بعض المبيع قبل القبض بفعل البائع، فذهب الحنفيّة إلى بطلان البيع بقدره ويسقط عن المشتري حصّة المالك من الثّمن سواء أكان النّقصان نقصان قيمة أم نقصان وصف - لأنّ الأوصاف لها حصّة من الثّمن عند ورود الجناية عليها، لأنّها تصير أصلا بالفعل فتقابل بالثّمن - والمشتري بالخيل في الباقي، إن شاء أخذه بحصّته من الثّمن، وإن شاء ترك لتفرّق الصّفقة عليه‏.‏ وعند الحنابلة إذا كان المبيع مكيلا أو موزونا‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ قياس قول أصحابنا أنّ المشتري مخيّر بين الفسخ والرّجوع بالثّمن، وبين أخذه والرّجوع على البائع بعوض ما أتلف أو عيّب‏.‏

أمّا إذا لم يكن المبيع مكيلا أو موزونا فلا ينفسخ البيع، ويرجع المشتري على البائع بعوض ما أتلف‏.‏

وفرّق المالكيّة بين أن يكون التّلف عمدا أو خطأ، وبين أن يكون الخيار للبائع أو للمشتري‏.‏ فإن كان الخيار للبائع وإتلافه للمبيع عمدا‏.‏ كان فعله ردّا للبيع قبل جنايته، لأنّ هذا التّصرّف من شأنه أن لا يفعله الإنسان إلا في ملكه، وإن كان إتلافه له خطأ، فللمشتري خيار العيب، إن شاء تمسّك ولا شيء له، أو ردّ وأخذ الثّمن بعد إجازة البائع بما له فيه من الخيار‏.‏ وإنّما لم تكن جنايته خطأ ردّا كجنايته عمدا لأنّ الخطأ مناف لقصد الفسخ، إذ الخطأ لا يجامع القصد‏.‏ وإن كان الخيار للمشتري وكان إتلاف البائع للمبيع عمدا، فللمشتري الخيار بين الرّدّ أو إمضاء البيع وأخذ أرش الجناية، وإن كان إتلافه له خطأ فالمشتري بالخيار بين ردّه للبائع أو أخذه ناقصا ولا شيء له‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى تخيير المشتري بين الفسخ والرّجوع بالثّمن وبين إجازة العقد بجميع الثّمن، ولا يغرم البائع للمشتري شيئاً على المذهب عندهم‏.‏

تلف بعض المبيع بفعل المشتري

15 - إذا تلف بعض المبيع بفعل المشتري فلا يبطل البيع ولا خيار له لحصوله بفعله، ولا يسقط عنه شيء من الثّمن لأنّه صار قابضا للكلّ بإتلاف البعض، ولا يتمكّن من إتلاف البعض إلّا بإثبات اليد على الكلّ، وصار قابضا قدر المتلف بالإتلاف والباقي بالتّعييب فتقرّر عليه كلّ الثّمن‏.‏ هذا هو مذهب الجمهور - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة -‏.‏

وفرّق المالكيّة بين أن يكون الخيار للبائع أو المشتري، وبين التّلف العمد والخطأ، فإن كان الخيار للمشتري وكان إتلافه للمبيع عمدا فيعتبر ذلك رضا منه بالبيع ولا رجوع فيه‏.‏ وإن كان خطأ فللمشتري ردّه وما نقص، وله التّمسّك به ولا شيء له، فإن ردّ وكان عيبا مفسدا ضمن الثّمن كلّه‏.‏ وإن كان الخيار للبائع فالبائع بالخيار بين ردّ البيع وأخذ أرش الجناية، أو الإمضاء وأخذ الثّمن، سواء أكان التّلف عمدا أم خطأ‏.‏

وعن ابن عرفة أنّ الخيار المذكور للبائع حيث كانت الجناية عمداً، فإن كانت خطأ خيّر المشتري بين أخذ المبيع ودفع الثّمن وأرش الجناية، وبين ترك المبيع للبائع ودفع أرش الجناية، فأرش الجناية يدفعه في كلّ من حالتي تخييره عنده، واعتمد بعضهم هذا‏.‏

تلف بعض المبيع بفعل الأجنبيّ

16 - إن تلف بعض المبيع بفعل أجنبيّ فعليه ضمانه، والمشتري بالخيار، إن شاء فسخ البيع وأتبع البائع الجاني بضمان ما أتلفه، وإن شاء اختار البيع وأتبع ‏(‏أي المشتري‏)‏ الجاني بالضّمان وعليه جميع الثّمن - وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة والشّافعيّة، وهو قول الحنابلة في المبيع إذا كان مكيلا ونحوه، إلا أنّ الشّافعيّة قالوا‏:‏ لا يغرم الأجنبيّ الأرش إلا بعد قبض المبيع لجواز تلفه في يد البائع فينفسخ البيع‏.‏ أمّا ما عدا المكيل والموزون عند الحنابلة، فليس للمشتري الخيار في الفسخ، وإنّما يتبع المتلف بالضّمان‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ أرش ما جنى الأجنبيّ للبائع ولو كان الخيار لغيره، وإذا أخذ البائع أرش الجناية فالمشتري حينئذ بالخيار، إمّا أن يأخذ المبيع معيباً مجّاناً، وإمّا أن يردّ ولا شيء عليه‏.‏

17 - اتّفق الفقهاء على أنّ تلف كلّ المبيع بعد القبض لا يفسخ به البيع، والهلاك يكون على المشتري وعليه الثّمن، لأنّ البيع تقرّر بقبض المبيع فتقرّر الثّمن - هذا من حيث الجملة - سواء أكان التّلف بآفة سماويّة أم بفعل المبيع أم بفعل المشتري، وإذا كان التّلف بفعل أجنبيّ فإنّه يرجع المشتري على الأجنبيّ بضمانه‏.‏

وفصّل الحنفيّة فقالوا‏:‏ إذا تلف بفعل البائع فينظر إن كان المشتري قبضه بإذن البائع أو بغير إذنه‏.‏ فإن كان قبضه بإذنه فاستهلاكه واستهلاك الأجنبيّ سواء‏.‏

وإن كان قبضه بغير إذن البائع صار البائع بالاستهلاك مستردّا للمبيع، فحصل الاستهلاك في ضمانه، فيوجب بطلان البيع وسقوط الثّمن، كما لو استهلك وهو في يده‏.‏

وإذا كان المشتري قد قبض المبيع على الخيار له أو للبائع أو لهما، ففي المذاهب تفصيل في ضمان التّلف يرجع إليه في بحث‏:‏ ‏(‏الخيار‏)‏‏.‏

تلف بعض المبيع بعد القبض

18 - إذا تلف بعض المبيع بعد القبض، فإنّ التّلف يكون على المشتري، ولا شيء على البائع ويجب عليه الثّمن، لأنّ المبيع خرج عن ضمان البائع بقبض المشتري فتقرّر عليه الثّمن‏.‏ وكذا إذا هلك بفعل أجنبيّ فالهلاك على المشتري ويرجع بالضّمان على الأجنبيّ‏.‏ واستثنى الحنفيّة من ذلك التّلف بفعل البائع، وفرّقوا بين ما لو كان للبائع حقّ الاسترداد أم لا‏.‏ فإن لم يكن للبائع حقّ الاسترداد فإتلافه والأجنبيّ سواء، وإن كان له حقّ الاسترداد ينفسخ البيع في قدر المتلف، ويسقط عن المشتري حصّته من الثّمن، لأنّه صار مستردّا لذلك القدر بالإتلاف، فتلف ذلك القدر في ضمانه، فيسقط قدره من الثّمن‏.‏

ب - تلف زوائد المبيع‏:‏

19 - زوائد المبيع الحادثة في يد البائع، كثمرة ولبن وبيض، أمانة في يد البائع، لا يضمنها إذا تلفت بغير تفريط منه، وذلك لأنّ ضمان الأصل بالعقد وهو لم يشملها، ولم تمتدّ يده عليها لتملّكها، كالمستام ولم يوجد منه تعدّ كالغاصب حتّى يضمن‏.‏

ج - التّلف في الإجارة‏:‏

20 - اتّفق الفقهاء على أنّ العين المؤجّرة أمانة في يد المستأجر، فإن تلفت أو ضاعت بغير تعدّ منه ولا تفريط فلا ضمان عليه، أمّا إذا تعدّى أو فرّط في المحافظة عليها فإنّه يكون ضامنا لما يلحق العين من تلف أو نقصان، وكذلك الحكم إذا تجاوز في الانتفاع بها حقّه فيه فتلفت عند ذلك‏.‏

واتّفقوا كذلك على أنّ الأجير الخاصّ أمين، فلا ضمان عليه فيما تلف في يده من مال أو ما تلف بعمله إلا بالتّعدّي أو التّفريط‏.‏ لأنّه نائب المالك في صرف منافعه إلى ما أمر به، فلم يضمن كالوكيل، ولأنّ عمله غير مضمون عليه، فلم يضمن ما تلف به كسراية القصاص، ولم يوجد منه صنع يصلح سببا لوجوب الضّمان‏.‏

واتّفقوا على أنّ الأجير المشترك إذا تلف عنده المتاع بتعدّ أو تفريط فإنّه يضمن‏.‏

واختلفوا فيما إذا تلف بغير تعدّ منه أو تفريط‏.‏

فذهب الشّافعيّة وأبو حنيفة وزفر إلى أنّ يده يد أمانة فلا يضمن ما تلف، لأنّ الأصل أن لا يجب الضّمان إلّا على المتعدّي، لقوله عزّ وجلّ ‏{‏فَلا عُدْوَانَ إلا عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏ ولم يوجد التّعدّي من الأجير لأنّه مأذون في القبض، والهلاك ليس من صنعه فلا يجب الضّمان عليه، ولهذا لا يجب الضّمان على المودع‏.‏ قال الرّبيع‏:‏ اعتقاد الشّافعيّ أنّه لا ضمان على الأجير، وإنّ القاضي يقضي بعلمه، وكان لا يبوح به خشية قضاة السّوء وأجراء السّوء‏.‏

وذهب أبو يوسف ومحمّد بن الحسن إلى أنّه مضمون عليه بالتّلف، إلا في حرق غالب، أو غرق غالب، أو لصوص مكابرين، فروي عن محمّد بن الحسن أنّه لو احترق محلّ الأجير المشترك بسراج يضمن الأجير، لأنّ هذا ليس بحريق غالب، وهو الّذي يقدر على استدراكه لو علم به، لأنّه لو علم به لأطفأه فلم يكن موضع العذر‏.‏

واحتجّا بما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»‏.‏ وروي عن عمر رضي الله عنه أنّه كان يضمّن الأجير المشترك احتياطاً لأموال النّاس، وهو المعنى في المسألة، وهو أنّ هؤلاء الأجراء الّذين يسلّم المال إليهم من غير شهود تخاف الخيانة منهم، فلو علموا أنّهم لا يضمنون لهلكت أموال النّاس لأنّهم لا يعجزون عن دعوى الهلاك، وهذا المعنى لا يوجد في الحريق الغالب، والغرق الغالب، والسّرق الغالب‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّه يضمن ما تلف بفعله ولو بخطئه، كتخريق القصّار الثّوب، وغلطه كأن يدفعه إلى غير ربّه، وأمّا ما تلف من حرزه بنحو سرقة أو تلف بغير فعله إذا لم يفرّط فلا ضمان عليه، لأنّ العين في يده أمانة، أشبه بالمودع‏.‏

وشرط المالكيّة لتضمينه شرطين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يغيب الأجير المشترك على السّلعة، وذلك بأن يصنعها بغير حضور ربّها وبغير بيته، وأمّا إن صنعها ببيته ولو بغير حضور ربّها، أو صنعها بحضوره لم يضمن ما نشأ من غير فعله كسرقة، أو تلف بنار مثلا بلا تفريط‏.‏ وثانيهما‏:‏ أن يكون المصنوع ممّا يغاب عليه كثوب ونحوه‏.‏

ثالثاً‏:‏ التّلف في عقود الأمانات وما في معناها‏:‏

21 - الأصل في عقود الأمانات كالوديعة أنّ ما تلف فيها من الأعيان يكون تلفه على صاحبه وليس على من كانت في يده شيء إن لم يتعدّ أو يفرّط فيها، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم «ليس على المستعير غير المغلّ ضمان، ولا على المستودع غير المغلّ ضمان» ولما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من أودع وديعة فلا ضمان عليه» ولحاجة النّاس إلى تلك العقود وفي إيجاب الضّمان عليهم تنفير عنها‏.‏ واستثنى الشّافعيّة والحنابلة من تلك العقود العاريّة، فقالوا بضمانها مطلقا إن تلفت عند المستعير فرّط أم لم يفرّط، لحديث سمرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»‏.‏ «وعن صفوان أنّه صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدرعاً ولم يكن قد أسلم بعد فقال‏:‏ أغصباً يا محمّد‏؟‏ قال‏:‏ بل عاريّة مضمونة»‏.‏

ولأنّه مال يجب ردّه لمالكه فيضمن عند تلفه كالمستام‏.‏

وأشار أحمد إلى الفرق بين العاريّة الوديعة وهو أنّ العاريّة أخذتها باليد، الوديعة دفعت إليك‏.‏ واستثنى الشّافعيّة في الأصحّ عندهم من ضمان العاريّة التّلف المنمحق - أي ما يتلف بالكلّيّة عند الاستعمال - والمنسحق - أي ما يتلف بعضه عند الاستعمال - إذا تلف باستعمال مأذون فيه لحدوثه عن سبب مأذون فيه، فأشبه قوله‏:‏ كل طعامي‏.‏

وعندهم قول بضمان المنمحق دون المنسحق، لأنّ مقتضى الإعارة الرّدّ، ولم يوجد في المنمحق، فيضمنه بخلاف المنسحق‏.‏

وخصّ المالكيّة الضّمان بتلف العاريّة المغيّب عليها - أي ما يمكن إخفاؤه - كالثّياب والحليّ بخلاف ما لا يغاب عليه، فلا ضمان عليه بتلفه، كالحيوان والعقار، إلا أن يأتي المستعير ببيّنة تثبت تلفه أو ضياعه بلا سببه، فلا يضمنه خلافا لأشهب القائل بالضّمان مطلقاً‏.‏

22 - وهناك عقود فيها معنى الأمانة كالمضاربة والإجارة والرّهن، فهي وإن لم تكن في أصلها عقد أمانة إلّا أنّ كلّا من المضارب والمستأجر والمرتهن أمين على ما في يده‏.‏

فلا خلاف بين الفقهاء في أنّ ما تلف من مال المضاربة يكون تلفه على ربّ المال ولا يضمنه المضارب، فهو في يده بمنزلة الوديعة، لأنّه قبضه بإذن المالك لا على وجه البدل والوثيقة، إلا أنّ المضارب يصير ضامناً لرأس المال إذا تلف بسبب مخالفة شرط ربّ المال، كأن شرط ربّ المال ألّا يسافر به في البحر فسافر فغرق المال، فإنّ المضارب حينئذ ضامن له لمخالفته شرط ربّ المال فصار بمنزلة الغاصب‏.‏

ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ يد المستأجر يد أمانة، فما تلف في يده لا ضمان عليه إلا بالتّعدّي أو التّفريط، أمّا إذا تعدّى أو فرّط في المحافظة عليها فإنّه يكون ضامناً لما يلحق العين من تلف أو نقصان، وكذلك الحكم إذا تجاوز في الانتفاع بها حقّه فيه فتلفت عند ذلك‏.‏

واختلف الفقهاء في الرّهن إذا تلف في يد المرتهن، هل يضمنه المرتهن أم لا‏؟‏

فذهب الحنفيّة إلى أنّ المرهون إذا تلف في يد المرتهن فإنّه مضمون بالأقلّ من قيمته ومن الدّين، وإن ساوت قيمته الدّين صار مستوفيا دينه، وخصّ المالكيّة ضمان المرهون بما إذا كان ممّا يغاب عليه، كحليّ وثياب وسلاح وكتب من كلّ ما يمكن إخفاؤه وكتمه، بخلاف ما لا يمكن كتمه كحيوان وعقار، وهذا إن لم تشهد له بيّنة، فإن شهدت بيّنة بتلفه أو هلاكه بغير سببه فلا ضمان عليه، لأنّ الضّمان هنا ضمان تهمة، وهي تنتفي بإقامة البيّنة‏.‏ وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ المرهون أمانة في يد المرتهن، فلا يسقط بتلفه شيء من الدّين بغير تعدّ من المرتهن أو تفريط، لما روى سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال «لا يغلق الرّهن من صاحبه الّذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه»‏.‏ ولأنّه لو ضمن لامتنع النّاس من فعله خوفا من الضّمان، وذلك وسيلة إلى تعطيل المداينات، وفيه ضرر عظيم‏.‏

رابعاً‏:‏ التّلف في المزارعة والمساقاة‏:‏

23 - المزارعة والمساقاة صورتان من صور عقود العمل، وقد اتّفق الفقهاء على مشروعيّة المساقاة، واختلفوا في مشروعيّة المزارعة‏.‏

وقد اعتبر الفقهاء العامل في عقدي المساقاة والمزارعة أمينا على ما في يده، فما تلف منه بلا تعدّ ولا تفريط لا شيء عليه فيه، وأمّا إذا فرّط العامل، كأن ترك السّقي حتّى فسد الزّرع فإنّه ضامن له، لأنّه في يده وعليه حفظه‏.‏

وللتّفصيل انظر مصطلح ‏(‏مزارعة، ومساقاة‏)‏‏.‏

خامساً‏:‏ تلف المغصوب‏:‏

24 - تلف المغصوب إمّا أن يكون حسّيّا، وإمّا أن يكون معنويّاً، فالتّلف الحسّيّ‏:‏ هو تفويت عين المغصوب عن ربّه، والتّلف المعنويّ‏:‏ هو تفويت معنى في المغصوب‏.‏ وفي كليهما الضّمان‏.‏

واتّفق الفقهاء على أنّه إن تلف المغصوب المنقول عند الغاصب، فإنّ عليه الضّمان، سواء تلف عنده بآفة أو بإتلاف، ويكون الضّمان بالمثل إن كان المغصوب مثليّا، وبالقيمة إن كان قيميّا، وإن تلف بعضه فعليه أرش النّقصان‏.‏

واختلفوا في غاصب العقار، إذا تلف العقار عنده بسيل أو حريق أو شبه ذلك هل عليه الضّمان أم لا‏؟‏‏.‏

فذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة - إلى تضمينه، وذهب الحنفيّة إلى عدم تضمينه إلّا في ثلاث‏:‏ الموقوف، ومال اليتيم، والمعدّ للاستغلال‏.‏ هذا في التّلف الحسّيّ‏.‏ أمّا التّلف المعنويّ، فمن صوره الّتي ذكرها الفقهاء، ما لو غصب عبدا ذا حرفة فنسي المغصوب الحرفة عند الغاصب فإنّ عليه أرش النّقص، إلا أن يتذكّرها سواء عند الغاصب أو المالك، أو يتعلّمها عند الغاصب فلا شيء عليه، أمّا لو تعلّمها عند المالك فالأرش باق على الغاصب‏.‏

وزاد الحنفيّة ما إذا كان شابّا فشاخ عند الغاصب، فإنّه يجب عليه الضّمان أيضا‏.‏

سادساً‏:‏ تلف اللّقطة‏:‏

25 - لتلف اللّقطة حالان، فهي في حال أمانة لا شيء على الملتقط إذا تلفت عنده أو ضاعت بغير تفريط منه ولا تعدّ‏.‏ وفي حال مضمونة بالتّلف أو الضّياع‏.‏

وقد اتّفق الفقهاء على أنّ اللّقطة أمانة عند الملتقط إذا أخذها ليحفظها لصاحبها، فإن تلفت عنده أو ضاعت لا شيء عليه، لأنّه أخذها على سبيل الأمانة فكانت يده يد أمانة كيد المودع‏.‏ وإن أخذها بقصد الخيانة فإنّه ضامن لها إن تلفت عملا بقصده المقارن لفعله ويعتبر كالغاصب‏.‏

سابعاً‏:‏ تلف المهر‏:‏

26 - فرّق الحنفيّة في تلف الصّداق المعيّن بين أن يكون التّلف فاحشا أو غير فاحش، وبين أن يكون في يد الزّوج أو في يد الزّوجة، ويختلف الحكم في كلّ باختلاف متلفه‏.‏

أ - الصّداق بيد الزّوج والنّقصان فاحش‏:‏

إن كان نقصان الصّداق بفعل أجنبيّ وكان فاحشاً، فالمرأة بالخيار بين أخذ المهر ناقصا مع الأرش، وبين ترك الصّداق وأخذ قيمته من الزّوج يوم العقد، ثمّ يرجع الزّوج على الأجنبيّ بضمان النّقصان‏.‏ وإن كان النّقصان بآفة سماويّة، فالزّوجة بالخيار، إن شاءت أخذته ناقصا ولا شيء لها غير ذلك، وإن شاءت تركته وأخذت قيمته يوم العقد‏.‏

وإن كان النّقصان بفعل الزّوج، فإنّ المرأة بالخيار بين أخذه ناقصا مع أرش النّقصان من الزّوج، وبين أخذ قيمته يوم العقد، وروي عن أبي حنيفة أنّ الزّوج إذا جنى على المهر فالزّوجة بالخيار إن شاءت أخذته ناقصا ولا شيء لها غير ذلك، وإن شاءت أخذت القيمة، وإن كان النّقصان بفعل الزّوجة نفسها فلا شيء على الزّوج، وصارت قابضة بالجناية، فجعل كأنّ النّقصان حصل في يدها‏.‏

وإن كان النّقصان بفعل المهر، بأن جنى المهر على نفسه، ففيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ أنّ حكمه كما لو تلف بآفة سماويّة، والثّانية‏:‏ كما لو تلف بفعل الزّوج‏.‏

ب - الصّداق بيد الزّوج والنّقصان غير فاحش‏:‏

إذا كان نقصان الصّداق يسيرا غير فاحش، فلا خيار للزّوجة، كما إذا كان هذا العيب به يوم العقد، ثمّ إن كان هذا النّقصان بآفة سماويّة أو بفعلها أو بفعل المهر فلا شيء لها، وإن كان بفعل أجنبيّ أو بفعل الزّوج أخذته مع أرش النّقصان‏.‏

ج - الصّداق بيد الزّوجة والنّقصان فاحش‏:‏

إذا كان نقصان الصّداق بفعل أجنبيّ، وكان فاحشا قبل الطّلاق فالأرش لها، فإن طلّقها الزّوج فله نصف القيمة يوم قبضت ولا سبيل له على العين، وإن كانت جناية الأجنبيّ عليه بعد الطّلاق فللزّوجة نصف المهر، وهو بالخيار في الأرش بين أخذ نصفه من المرأة مع اعتبار قيمته يوم القبض، وبين أخذ نصفه من الجاني‏.‏

وإن كان النّقصان بفعل الزّوج فجنايته كجناية الأجنبيّ، لأنّه جنى على ملك غيره ولا يد له فيه فصار كالأجنبيّ، وسبق حكم إتلاف الأجنبيّ‏.‏

وإن كان النّقصان بآفة سماويّة قبل الطّلاق فالزّوج بالخيار بين أخذ نصفه ناقصا ولا شيء له غير ذلك، وبين أخذ نصف القيمة يوم القبض، وإن كان ذلك بعد الطّلاق فهو بالخيار أيضا بين أخذ نصفه ونصف الأرش، وبين أخذ قيمته يوم قبضت‏.‏

وإن كان النّقصان بفعل المرأة فالزّوج بالخيار بين أخذ نصفه ولا شيء له، وبين أخذ نصف قيمته‏.‏

وقال زفر‏:‏ للزّوج أن يضمّنها الأرش، وإن كان ذلك بعد الطّلاق فعليها نصف الأرش، وإن كان النّقصان بفعل المهر نفسه فالزّوج بالخيار بين أخذ نصفه ناقصا وبين أخذ نصف قيمته‏.‏

د - الصّداق بيد المرأة والنّقصان غير فاحش‏:‏

إن كان النّقصان غير فاحش وهو بيد المرأة وكان النّقصان بفعل أجنبيّ أو الزّوج، فإنّ المهر لا يتنصّف لأنّ الأرش يمنع التّنصيف، وإن كان النّقصان بآفة سماويّة أو بفعلها أو بفعل المهر أخذ النّصف ولا خيار له‏.‏

27 - ويفرّق المالكيّة بين ما إذا كان الصّداق ممّا يغاب عليه أو ممّا لا يغاب عليه‏:‏

فإذا تلف الصّداق وكان ممّا يغاب عليه ولم يثبت هلاكه ببيّنة، فضمانه ممّن هلك في يده، سواء أكان بيد الزّوج أم الزّوجة، فإذا كان بيد الزّوج وادّعى ضياعه وكان قد دخل بها ضمن لها قيمته أو مثله، وإن كان بيدها ضاع عليها، وإن كان طلّق قبل الدّخول لزم لها نصف الصّداق إن ضاع بيده، وإن كان بيدها غرمت له نصف القيمة أو نصف المثل‏.‏

وإن كان الصّداق ممّا لا يغاب عليه، أو كان ممّا يغاب عليه، وقامت على هلاكه بيّنة، فضمانه منهما سواء كان بيد الزّوج أو بيد الزّوجة، فكلّ من تلف في يده لا يغرم للآخر حصّته‏.‏ وهذا فيما إذا حصل طلاق قبل الدّخول‏.‏

وأمّا إذا لم يحصل طلاق قبل الدّخول، وكان النّكاح صحيحا، فإنّ ضمان الصّداق على الزّوجة بمجرّد العقد ولو كان بيد الزّوج، والمراد بضمانها له أنّه يضيع عليها‏.‏

وإن كان النّكاح فاسداً فإنّها لا تضمن الصّداق إلا بقبضه‏.‏

28 - وقسّم الشّافعيّة تلف المهر إذا كان عينا إلى تلف كلّيّ وتلف جزئيّ، وفرّقوا في الحكم بين أن يكون التّلف بفعل أجنبيّ، أو بفعل الزّوج، أو الزّوجة، أو بآفة سماويّة‏.‏

أ - التّلف الكلّيّ‏:‏ فإذا تلف المهر في يد الزّوج بآفة سماويّة وجب عليه بدله من مثل أو قيمة‏.‏ وإن تلف بفعل الزّوجة فيعتبر إتلافها قبضا له إذا كانت أهلا للتّصرّف، ولا شيء على الزّوج لأنّها قبضت حقّها وأتلفته، وإن كانت غير رشيدة، فلا يعتبر إتلافها قبضا، لأنّ قبضها غير معتدّ به، ويجب على الزّوج الضّمان‏.‏

وإن تلف بفعل الزّوج فحكمه كما لو تلف بآفة سماويّة، فيجب عليه بدله من مثل أو قيمة‏.‏ وإن تلف بفعل أجنبيّ، فالزّوجة بالخيار بين فسخ الصّداق وإبقائه، فإن فسخت الصّداق أخذت من الزّوج مهر المثل‏.‏ ويأخذ الزّوج الغرم من المتلف، وإن أبقته غرم المتلف لها المثل أو القيمة، وليس لها مطالبة الزّوج‏.‏

ب - التّلف الجزئيّ‏:‏ إن تلف بعض الصّداق قبل قبضه بآفة سماويّة أو بفعل الزّوج‏.‏ انفسخ عقد الصّداق في التّالف دون الباقي، ولها الخيار بين الفسخ والإجازة لعدم سلامة المعقود عليه، فإن فسخت الصّداق فلها مهر المثل‏.‏

وإن أجازت فلها حصّة التّالف من مهر المثل مع الباقي من المهر بعد التّلف‏.‏

وإن تلف بعضه بفعل الزّوجة فهي قابضة لقسطه الّذي تلف بفعلها، ولا شيء على الزّوج ولها الباقي من المهر بعد التّلف‏.‏

وإن أتلفه أجنبيّ فهي بالخيار بين الفسخ والإجازة، فإن فسخت طالبت الزّوج بمهر المثل، وإن أجازت طالبت الأجنبيّ بالبدل‏.‏ على تفصيل في المذهب ينظر في ‏(‏صداق‏)‏‏.‏

29 - وذهب الحنابلة إلى أنّ ضمان المهر على الزّوجة سواء أقبضته أم لم تقبضه لدخوله في ملكها بالعقد، إلا أن يمنعها الزّوج قبضه فيكون ضمانه عليه لأنّه بمنزلة الغاصب‏.‏ إلا أن يتلف الصّداق بفعلها، فيكون إتلافها قبضا منها ويسقط عنه ضمانه، هذا فيما إذا كان الصّداق معيّنا‏.‏ وأمّا إذا كان الصّداق غير معيّن، فإنّه لا يدخل في ضمانها إلا بقبضه‏.‏ وهذا كلّه فيما إذا دخل بها‏.‏

وأمّا إن طلّقها قبل الدّخول وتلف بعض الصّداق وهو بيدها، فإن كان التّلف بغير جناية عليه كأن نقص بمرض، أو نسيان صنعة، فالزّوج بالخيار بين أخذ نصف عينه ناقصا ولا شيء له غيره، وبين أخذ نصف قيمته، وإن كان نقصان الصّداق بجناية جان عليه فللزّوج أخذ نصف الصّداق الباقي مع نصف الأرش لأنّه بدل ما فات منه

ما يتلفه البغاة

البغاة وهم مخالفو الإمام بالخروج عليه وترك الانقياد له أو منع حقّ توجّه إليهم، بشرط أن تكون لهم شوكة وتأويل غير مقطوع بفساده ومطاع يصدرون عن أمره‏.‏

30 - واتّفق الفقهاء على أنّ ما يتلفه البغاة من الأموال والأنفس على الإمام العادل لا ضمان فيه، وكذلك ما يتلفه الإمام عليهم‏.‏ لقول الزّهريّ‏:‏ هاجت الفتنة وأصحاب رسول اللّه متواترون، فأجمعوا أن لا يقاد أحد،ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن إلا ما وجد بعينه‏.‏ فقد جرت الوقائع في عصر الصّحابة رضوان الله عليهم، كوقعة الجمل، وصفّين، ولم يطالب بعضهم بعضا بضمان نفس أو مال، ولأجل التّرغيب في الطّاعة لئلا ينفروا عنها ويتمادوا على ما هم فيه، ولهذا سقطت التّبعة عن الحربيّ إذا أسلم، ولأنّ الإمام مأمور بالقتال فلا يضمن ما يتولّد منه، وهم إنّما أتلفوا بتأويل‏.‏

ويشترط لنفي الضّمان أن يكون الإتلاف في حال القتال، وأمّا في غير حال القتال فإنّه مضمون عليهم‏.‏ وقيّد الشّافعيّة الحكم وخصّوه بما أتلف في القتال لضرورته، فإن أتلف فيه ما ليس من ضرورته فإنّه مضمون عندهم‏.‏ واستثنوا من ذلك ما إذا قصد أهل العدل بإتلاف المال إضعافهم وهزيمتهم، فإنّه لا ضمان، بخلاف ما لو قصدوا التّشفّي والانتقام‏.‏ ولم يعتبر الحنفيّة هذا الشّرط، وإنّما اعتبروا التّحيّز وعدمه، وقالوا‏:‏ ما فعلوه قبل التّحيّز والخروج وبعد تفرّق جمعهم يؤاخذون به، وأمّا ما فعلوه بعد التّحيّز فلا ضمان فيه‏.‏ وعندهم كذلك يضمن الإمام ما أتلفه عليهم قبل تحيّزهم وخروجهم، أو بعد كسرهم وتفرّق جمعهم‏.‏

ما تتلفه الدّوابّ

31 - قد سبق تفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏إتلاف ‏)‏‏.‏

تلفيق

التّعريف

1 - التّلفيق في اللّغة‏:‏ الضّمّ، وهو مصدر لفّق، ومادّة لفّق لها في اللّغة أكثر من معنى، فهي تستعمل بمعنى الضّمّ‏.‏

والملاءمة، والكذب المزخرف‏.‏ والتّلفاق أو اللّفاق بكسرهما‏:‏ ثوبان يلفّق أحدهما بالآخر‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ يستعمل الفقهاء التّلفيق بمعنى الضّمّ كما في المرأة الّتي انقطع دمها فرأت يوماً دماً ويوماً نقاء، أو يومين ويومين بحيث لا يجاوز التّقطّع خمسة عشر يوما عند غير الأكثرين على مقابل الأظهر عند الشّافعيّة‏.‏

وكما هو الحال في حصول الرّكعة الملفّقة في صلاة الجمعة للمسبوق‏.‏

ويستعملونه أيضا بمعنى التّوفيق والجمع بين الرّوايات المختلفة في المسألة الواحدة، كما في الرّوايات الموجبة للجعل في ردّ الآبق عند الحنفيّة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّفريق‏:‏

2 - التّفريق مصدر فرّق ومعناه في اللّغة‏:‏ الفصل بين الشّيئين والفقهاء يستعملونه أيضا بهذا المعنى كما في التّفريق في صيام التّمتّع بين الثّلاثة والسّبعة الأيّام، وكما في قسم الصّدقات، وكما في تفريق طلاق المدخول بها إذا أراد أكثر من واحدة بأن يوقع كلّ طلقة في طهر لم يمسّها فيه ليصيب السّنّة‏.‏ فالتّفريق ضدّ التّلفيق‏.‏

ب - التّقدير‏:‏

3 - التّقدير‏:‏ مصدر قدّر، ويأتي في اللّغة على وجوه من المعاني‏.‏

أحدها‏:‏ التّروّي والتّفكير في تسوية أمر وتهيئته‏.‏

والثّاني‏:‏ تقديره بعلامات يقطعه عليها وهو بيان المقادير ذرعا، أو كيلا، أو وزنا، أو عدّ ذلك‏.‏

والثّالث‏:‏ أن تنوي أمرا بعزمك عليه‏.‏ تقول قدّرت أمر كذا وكذا أي نويته وعقدت عليه‏.‏ ويشترك التّقدير مع التّلفيق في أنّ كلّا منهما فيه جمع بين أمور غير محدّدة‏.‏

الأحكام الإجماليّة ومواطن البحث

ذكر الفقهاء التّلفيق في عدد من المواطن نجملها فيما يلي‏:‏

التّلفيق في الحيض إذا تقطّع

4 - اتّفق الفقهاء على أنّ الطّهر المتخلّل بين الدّمين إذا كان خمسة عشر يوما فصاعدا فإنّه يكون فاصلا بينهما، أمّا إذا كان الطّهر الفاصل بين الدّمين أقلّ من هذه المدّة فقد اختلفوا في اعتباره فاصلا أو عدم اعتباره‏.‏

5 - فالحنفيّة يجمعون على أنّ الطّهر الفاصل بين الدّمين إذا كان أقلّ من ثلاثة أيّام فإنّه لا يعتبر فاصلا‏.‏ وأمّا فيما عدا ذلك ففيه أربع روايات عن أبي حنيفة‏:‏

الأولى‏:‏ وهي رواية أبي يوسف عنه أنّ الطّهر المتخلّل بين الدّمين إذا كان أقلّ من خمسة عشر يوما يكون طهرا فاسدا ولا يكون فاصلا بين الدّمين بل يكون كلّه كدم متوال، ثمّ يقدّر ما ينبغي أن يجعل حيضا فيجعل حيضا والباقي يكون استحاضة‏.‏

الثّانية‏:‏ وهي رواية محمّد عنه أنّ الدّم إذا كان في طرفي العشرة فالطّهر المتخلّل بينهما لا يكون فاصلا ويجعل كلّه كدم متوال، وإن لم يكن الدّم في طرفي العشرة كان الطّهر فاصلا بين الدّمين‏.‏ ثمّ بعد ذلك إن أمكن أن يجعل أحد الدّمين حيضا يجعل ذلك حيضاً، وإن أمكن أن يجعل كلّ واحد منهما حيضا يجعل أسرعهما وهو أوّلهما، وإن لم يمكن جعل أحدهما حيضا لا يجعل شيء من ذلك حيضاً‏.‏

الثّالثة‏:‏ وهي رواية عبد اللّه بن المبارك عنه أنّ الدّم إذا كان في طرفي العشرة وكان بحال لو جمعت الدّماء المتفرّقة تبلغ حيضاً لا يصير الطّهر فاصلاً بين الدّمين ويكون كلّه حيضاً، وإن كان بحال لو جمع لا يبلغ حيضا يصير فاصلا بين الدّمين، ثمّ ينظر إن أمكن أن يجعل أحد الدّمين حيضا يجعل ذلك حيضا، وإن أمكن أن يجعل كلّ واحد منهما حيضا، يجعل أسرعهما حيضا وإن لم يمكن أن يجعل أحدهما حيضاً لا يجعل شيء من ذلك حيضاً‏.‏

الرّابعة‏:‏ وهي رواية الحسن عنه أنّ الطّهر المتخلّل بين الدّمين إذا كان أقلّ من ثلاثة أيّام لا يكون فاصلا بين الدّمين، وكلّه بمنزلة المتوالي، وإذا كان ثلاثة أيّام كان فاصلا بينهما‏.‏ واختار محمّد أنّ الطّهر المتخلّل بين الدّمين إذا كان أقلّ من ثلاثة أيّام لا يعتبر فاصلا، وإن كان أكثر من الدّمين، ويكون بمنزلة الدّم المتوالي، وإذا كان ثلاثة أيّام فصاعدا فهو طهر كثير فيعتبر‏.‏ لكن ينظر بعد ذلك إن كان الطّهر مثل الدّمين أو أقلّ من الدّمين في العشرة لا يكون فاصلا، وإن كان أكثر من الدّمين يكون فاصلا‏.‏ هذا وأقلّ الحيض عند الحنفيّة ثلاثة أيّام وثلاث ليال في ظاهر الرّواية، وأكثره عشرة أيّام ولياليها، وأقلّ الطّهر عندهم خمسة عشر يوما ولا غاية لأكثره، إلا إذا احتيج إلى نصب العادة‏.‏

6 - ويرى المالكيّة في مسألة التّقطّع هذه أنّ المرأة تُلَفِّق أي تجمع أيّام الدّم فقط لا أيّام الطّهر على تفصيلها من مبتدأة ومعتادة وحامل‏.‏

فتلفّق المبتدأة نصف شهر، والمعتادة عادتها واستظهارها، والحامل في ثلاثة أشهر النّصف ونحوه، وفي ستّة فأكثر عشرين ونحوها، ثمّ هي بعد ذلك مستحاضة‏.‏

وتغتسل الملفّقة وجوباً كلّما انقطع الدّم عنها في أيّام التّلفيق، إلا أن تظنّ أنّه يعاودها قبل انقضاء وقت الصّلاة الّتي هي فيه، فلا تؤمر بالغسل، وتصوم إن كانت قبل الفجر طاهراً، وتصلّي بعد طهرها فيمكن أن تصلّي وتصوم في جميع أيّام الحيض بأن كان يأتيها ليلا وينقطع قبل الفجر حتّى يغيب الشّفق فلا يفوتها شيء من الصّلاة والصّوم، وتدخل المسجد، وتطوف الإفاضة إلّا أنّه يحرم طلاقها ويجبر على مراجعتها‏.‏

هذا وأقلّ الحيض عند المالكيّة دفعة، وأمّا أكثره فيختلف باختلاف الحائض، فالمبتدأة إن تمادت بها الحيضة فأكثره في حقّها خمسة عشر يوماً‏.‏

والمعتادة إن لم تختلف عادتها استظهرت عليها بثلاثة أيّام ما لم تجاوز خمسة عشر يوماً، وإن اختلفت عادتها استظهرت على أكثر عادتها كذلك وهي حائض في أيّام الاستظهار‏.‏

7 - ويرى الشّافعيّة في هذه المسألة أنّ التّقطّع لا يخلو، إمّا أن يجاوز الخمسة عشر، وإمّا أن لا يجاوزها، فإن لم يجاوزها فقولان‏:‏

أظهرهما عند الأكثرين كما في الرّوضة أنّ الجميع حيض، ويسمّى القول بذلك ‏"‏ السّحب ‏"‏ بشرط أن يكون النّقاء محتوشا ‏"‏محاطا ‏"‏ بدمين في الخمسة عشر، وإلّا فهو طهر بلا خلاف‏.‏

والثّاني‏:‏ حيضها الدّماء خاصّة‏.‏وأمّا النّقاء فطهر ويسمّى هذا القول ‏"‏ التّلفيق ‏"‏ أو ‏"‏ اللّقط ‏"‏ وعلى هذا القول إنّما يجعل النّقاء طهرا في الصّوم والصّلاة والغسل ونحوها دون العدّة، والطّلاق فيه بدعيّ‏.‏ ثمّ القولان هما في النّقاء الزّائد على الفترة المعتادة، فأمّا الفترة المعتادة بين دفعتي الدّم فحيض بلا خلاف‏.‏

ولا فرق في جريان القولين بين أن يستوي قدر الدّم والنّقاء أو يزيد أحدهما‏.‏

أمّا إذا جاوز الدّم بصفة التّلفيق الخمسة عشر صارت مستحاضة كغيرها إذا جاوز دمها تلك المدّة، وَلا صَائِر إلى الالتقاط من جميع الشّهر وإن لم يزد مبلغ الدّم على أكثر الحيض، وإذا صارت مستحاضة فالفرق بين حيضها واستحاضتها بالرّجوع إلى العادة، أو التّمييز كغير ذات التّلفيق‏.‏

هذا وأقلّ الحيض عند الشّافعيّة يوم وليلة على المذهب وعليه التّفريع، وأكثره خمسة عشر يوما وغالبه ستّ أو سبع، وأقلّ الطّهر بين حيضتين خمسة عشر يوما وغالبه تمام الشّهر بعد الحيض ولا حدّ لأكثره‏.‏

8 - ويرى الحنابلة في مسألة التّقطّع هذه أنّ المرأة تغتسل وتصلّي في زمن الطّهر حتّى ولو كان ساعة، لقول ابن عبّاس‏:‏ لا يحلّ لها إذا رأت الطّهر ساعة إلا أن تغتسل، ثمّ إن انقطع الدّم لخمسة عشر فما دون فجميعه حيض، تغتسل عقيب كلّ يوم وتصلّي في الطّهر، وإن عبر الخمسة عشر فهي مستحاضة تردّ إلى عادتها‏.‏

والأصل المعتبر الّذي تردّ إليه مسائل التّلفيق عندهم حينئذ أنّها إن كانت عادتها سبعة متوالية جلست، وما وافقها من الدّم فيكون حيضها منه ثلاثة أيّام أو أربعة‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ النّاسية كالمعتادة إن أجلسناها سبعا، فإن أجلسناها أقلّ الحيض جلست يوما وليلة لا غير، وإن كانت مميّزة ترى يوما دما أسود، ثمّ ترى نقاء، ثمّ ترى أسود إلى عشرة أيّام، ثمّ ترى دما أحمر وعبر ‏(‏أي‏:‏ تجاوز‏)‏ ردّت إلى التّمييز، فيكون حيضها زمن الدّم الأسود دون غيره، ولا فرق بين أن ترى الدّم زمنا يمكن أن يكون حيضا كيوم وليلة، أو دون ذلك كنصف يوم ونصف ليلة‏.‏ فإن كان النّقاء أقلّ من ساعة فالظّاهر أنّه ليس بطهر لأنّ الدّم يجري تارة وينقطع أخرى‏.‏

وإذا رأت ثلاثة أيّام دما ثمّ طهرت اثني عشر يوماً، ثمّ رأته ثلاثة دماً، فالأوّل حيض لأنّها رأته في زمان إمكانه‏.‏

والثّاني استحاضة لأنّه لا يمكن أن يكون ابتداء حيض لكونه لم يتقدّمه أقلّ الطّهر ولا من الحيض الأوّل، لأنّه يخرج عن الخمسة عشر، والحيضة الواحدة لا يكون بين طرفيها أكثر من خمسة عشر يوماً‏.‏

فإن كان بين الدّمين ثلاثة عشر يوماً فأكثر وتكرّر، فهما حيضتان لأنّه أمكن جعل كلّ واحد منهما حيضة منفردة لفصل أقلّ الطّهر بينهما، وإن أمكن جعلهما حيضة واحدة بأن لا يكون بين طرفيهما أكثر من خمسة عشر يوما مثل أن ترى يومين دما وتطهر عشرة، وترى ثلاثة دما وتكرّر فهما حيضة واحدة، لأنّه لم يخرج زمنهما عن مدّة أكثر الحيض‏.‏

وجاء في مطالب أولي النّهى أنّ الطّهر في أثناء الحيضة صحيح تغتسل فيه وتصلّي ونحوه أي‏:‏ تصوم وتطوف وتقرأ القرآن، ولا يكره فيه الوطء لأنّه طهر حقيقة‏.‏

وقال في الإنصاف‏:‏ حكمها حكم الطّاهرات في جميع أحكامها على الصّحيح من المذهب‏.‏ هذا والحنابلة في أقلّ الحيض وأكثره وغالبه كالشّافعيّة، إلا أنّهم خالفوهم في أقلّ الطّهر الفاصل بين الحيضتين، حيث قالوا‏:‏ إنّه ثلاثة عشر يوماً‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏حيض‏)‏‏.‏

إدراك الجمعة بركعة ملفّقة

9 - يرى الشّافعيّة والحنابلة أنّ الجمعة تدرك بركعة ملفّقة من ركوع الأولى وسجود الثّانية، وقد ذكر الشّافعيّة ذلك في المزحوم الّذي لم يتمكّن من السّجود في الرّكعة الأولى حتّى شرع الإمام في ركوع الرّكعة الثّانية من الجمعة، فقد ذكروا أنّ المزحوم يراعي نظم صلاة نفسه في قول فيسجد الآن، ويحسب ركوعه الأوّل في الأصحّ لأنّه أتى به في وقته، وإنّما أتى بالرّكوع الثّاني لعذر، فأشبه ما لو والى بين ركوعين ناسياً‏.‏

وقيل‏:‏ يؤخذ بالرّكوع الثّاني لإفراط التّخلّف فكأنّه مسبوق لَحِقَ الآن فركعته ملفّقة من ركوع الرّكعة الأولى ومن سجود الثّانية الّذي أتى به فيها، وتدرك بها الجمعة في الأصحّ لإطلاق خبر‏:‏ «من أدرك ركعة من الجمعة فليصلّ إليها أخرى»‏.‏ وهذا قد أدرك ركعة وليس التّلفيق نقصا في المعذور‏.‏ وعلى مقابل الأصحّ لا تدرك بها الجمعة لنقصها بالتّلفيق‏.‏

هذا والأظهر عند الشّافعيّة متابعة الإمام‏.‏ لظاهر‏:‏ «إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به فإذا ركع فاركعوا» ولأنّ متابعة الإمام آكد، ولهذا يتبعه المسبوق ويترك القراءة والقيام‏.‏

وأمّا الحنابلة فقد ذكروا ذلك فيمن زال عذره بعد أن أدرك ركوع الأولى، وقد رفع إمامه من ركوع الثّانية، فقد جاء في الإنصاف‏:‏ أنّه يتابعه في السّجود فتتمّ له ركعة ملفّقة من ركعتي إمامه يدرك بها الجمعة على الصّحيح من المذهب‏.‏

وتدرك الجمعة عند الشّيخين من الحنفيّة بإدراك الإمام في التّشهّد أو في سجود السّهو، وعلى هذا فلا يتصوّر التّلفيق عندهما لعدم الحاجة إليه، وقال محمّد‏:‏ إنّها تدرك بإدراك أكثر الرّكعة الثّانية مع الإمام‏.‏

وذكر صاحب مواهب الجليل من المالكيّة قولين عن ابن القاسم وأشهب فيمن زوحم عن السّجدة الأخيرة في الجمعة بحيث لم يتمكّن من الإتيان بها إلّا بعد سلام الإمام في أنّه يتمّها ظهرا أو جمعة‏.‏ والتّفصيل في مصطلح ‏(‏جمعة‏)‏‏.‏

التّلفيق في مسافة القصر لمن كان بعض سفره في البحر وبعضه في البرّ

10 - يرى المالكيّة على القول الّذي لا يفرّق بين السّفر في البحر والسّفر في البرّ في اعتبار المسافة أنّه إذا سافر وكان بعض سفره في البرّ وبعضه في البحر فإنّه يلفّق أي‏:‏ يضمّ مسافة أحدهما لمسافة الآخر مطلقا من غير تفصيل‏.‏

وجاء في الزّرقانيّ أنّه يلفّق بين مسافة البرّ ومسافة البحر إذا كان السّير في البحر بمجداف، أو به وبالرّيح، فإن كان يسير فيه بالرّيح فقط لم يقصر في مسافة البرّ المتقدّمة وهي دون قصر فلا تلفيق‏.‏

ولم يفرّق الشّافعيّة وكذا الحنابلة - على الصّحيح من المذهب عندهم - في مسافة القصر بين البرّ والبحر، بل لو سار في البحر وقطع تلك المسافة في لحظة فإنّه يقصر‏.‏

وعند الحنفيّة لا يعتبر السّير في البرّ بالسّير في البحر، ولا السّير في البحر بالسّير في البرّ، وإنّما يعتبر في كلّ موضع منهما ما يليق بحاله، والمختار للفتوى عندهم أن ينظر كم تسير السّفينة في ثلاثة أيّام ولياليها، إذا كانت الرّياح مستوية معتدلة فيجعل ذلك هو المقدّر، لأنّه أليق بحاله كما في الجبل‏.‏ والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏سفر‏)‏‏.‏

التّلفيق في صوم الشّهرين في كفّارة الظّهار وما شابهها

11 - المراد بالتّلفيق في صوم الكفّارة إتمام الشّهر الأوّل منهما من الشّهر الثّالث‏.‏

اتّفق الفقهاء على أنّ المكفّر بالصّوم في كفّارة الظّهار، أو القتل، أو الوطء عمدا في نهار رمضان إذا ابتدأ صوم الشّهرين باعتبار الأهلّة فإنّ ذلك يجزئه حتّى وإن كانا ناقصين‏.‏ واتّفقوا أيضاً على الإجزاء فيما إذا كان أحدهما ناقصا والآخر كاملاً‏.‏

واتّفقوا أيضا على الإجزاء فيما لو صام ستّين يوما بغير اعتبار الأهلّة‏.‏

واتّفقوا أيضا على أنّه لو ابتدأ الصّيام في أثناء شهر، ثمّ صام الشّهر الّذي يليه باعتبار الهلال، ثمّ أكمل الشّهر الأوّل من الشّهر الثّالث تلفيقا وبلغ عدد الأيّام ستّين يوما فإنّه يجزئه‏.‏ أمّا لو بلغ عدد الأيّام تسعة وخمسين يوما فإنّ ذلك يجزئه عند المالكيّة والحنابلة والصّاحبين والشّافعيّة في الصّحيح، ولا يجزئه عند أبي حنيفة وعند الشّافعيّة في وجه شاذّ‏.‏ والتّفصيل في مصطلح ‏(‏كفّارة‏)‏‏.‏

التّلفيق بين شهادتين لإثبات الرّدّة

12 - ذهب المالكيّة إلى جواز التّلفيق بين الشّهادتين في الأقوال المختلفة في اللّفظ المتّفقة في المعنى لإثبات الرّدّة، كما لو شهد أحدهما عليه أنّه قال‏:‏ لم يكلّم اللّه موسى تكليما، وشهد آخر عليه أنّه قال‏:‏ ما اتّخذ اللّه إبراهيم خليلا، فإنّ القاضي يجمع بين هاتين الشّهادتين لإثبات الرّدّة‏.‏ أمّا إذا كانت إحدى الشّهادتين على قول، مثل أن يشهد عليه أنّه قال‏:‏ في كلّ جنس نذير، والأخرى على فعل كإلقاء مصحف في قاذورة، أو كانتا على فعلين مختلفين كالإلقاء المذكور، وشدّ الزّنّار فلا تلفيق‏.‏

هذا وفي قبول الشّهادة لإثبات الرّدّة خلاف بين الفقهاء في أنّها هل تثبت بها مطلقا أي‏:‏ على وجه الإطلاق أو لا بدّ من التّفصيل‏؟‏ وهل يتعرّض للمشهود عليه إذا أنكر‏؟‏

وهذا بعد اتّفاقهم جميعا على أنّ الشّهادة بها لا يقبل فيها إلا العدول‏.‏

فذهب الحنفيّة كما جاء في الدّرّ المختار إلى أنّهم لو شهدوا على مسلم بالرّدّة وهو منكر لا يتعرّض له لا لتكذيب الشّهود والعدول بل لأنّ إنكاره توبة ورجوع يدرأ عنه القتل فقط دون غيره من أحكام الرّدّة، كحبط عمل وبطلان وقف وبينونة زوجة وإلا أي‏:‏ إذا لم ينكر فإنّه يقتل كارتداده بنفسه‏.‏

وذهب المالكيّة والشّافعيّة على أحد القولين إلى أنّ الشّهادة بها لا تقبل بإطلاق، بل لا بدّ من التّفصيل لاختلاف أهل السّنّة في أسباب الكفر فربّما وجب عند بعض دون آخرين‏.‏ والقول المعتمد عند الشّافعيّة، وهو أيضا مذهب الحنابلة هو أنّ الشّهادة بها تقبل بإطلاق من غير تفصيل، حتّى إذا أنكر المشهود عليه لا ينفعه إنكاره بل لا بدّ له من التّوبة وإلا قتل، لأنّها لخطرها لا يقدّم العدل على الشّهادة بها إلا بعد تحقّقها بأن يذكر موجبها وإن لم يقل عالما مختاراً لاختلاف المذاهب في الكفر وخطر أمر الرّدّة‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ردّة‏)‏‏.‏

التّلفيق بين المذاهب

13 - المراد بالتّلفيق بين المذاهب أخذ صحّة الفعل من مذهبين معا بعد الحكم ببطلانه على كلّ واحد منهما بمفرده، ومثاله‏:‏ متوضّئ لمس امرأة أجنبيّة بلا حائل وخرج منه نجاسة كدم من غير السّبيلين، فإنّ هذا الوضوء باطل باللّمس عند الشّافعيّة، وباطل بخروج الدّم من غير السّبيلين عند الحنفيّة، ولا ينتقض بخروج تلك النّجاسة من غير السّبيلين عند الشّافعيّة، ولا ينتقض أيضا باللّمس عند الحنفيّة، فإذا صلّى بهذا الوضوء، فإنّ صحّة صلاته ملفّقة من المذهبين معا، وقد جاء في الدّرّ المختار‏:‏ أنّ الحكم الملفّق باطل بالإجماع، وأنّ الرّجوع عن التّقليد بعد العمل باطل اتّفاقا، وهو المختار في المذهب لأنّ التّقليد مع كونه جائزا فإنّ جوازه مشروط بعدم التّلفيق كما ذكر ابن عابدين في حاشيته‏.‏

وفي تتبّع الرّخص، وفي متتبّعها في المذاهب خلاف بين الأصوليّين والفقهاء‏:‏

والأصحّ كما في جمع الجوامع امتناع تتبّعها لأنّ التّتبّع يحلّ رباط التّكليف، لأنّه إنّما تبع حينئذ ما تشتهيه نفسه‏.‏

بل ذهب بعضهم إلى أنّه فسق، والأوجه كما في نهاية المحتاج خلافه، وقيل‏:‏ محلّ الخلاف في حالة تتبّعها من المذاهب المدوّنة وإلا فسّق قطعاً، ولا ينافي ذلك قول ابن الحاجب كالآمديّ‏:‏ من عمل في مسألة بقول إمام لا يجوز له العمل فيها بقول غيره اتّفاقاً، لتعيّن حمله على ما إذا بقي من آثار العمل الأوّل ما يلزم عليه مع الثّاني تركّب حقيقة لا يقول بها كلّ من الإمامين، كتقليد الشّافعيّ في مسح بعض الرّأس، ومالك في طهارة الكلب في صلاة واحدة‏.‏

وتتبّعها عند من أجازه مشروط بعدم العمل بقول آخر مخالف لذلك الأخفّ‏.‏

وينظر التّفصيل في الملحق الأصوليّ‏.‏

هذا والتّلفيق المقصود هنا هو ما كان في المسألة الواحدة بالأخذ بأقوال عدد من الأئمّة فيها أمّا الأخذ بأقوال الأئمّة في مسائل متعدّدة فليس تلفيقا وإنّما هو تنقّل بين المذاهب أو تخيّر منها، وينظر التّفصيل في مصطلح ‏(‏تقليد‏)‏‏.‏

تلقين

التّعريف

1 - التّلقين‏:‏ مصدر لقّن، يقال لقّن الكلام‏:‏ فهمه، وتلقّنه‏:‏ أخذه وتمكّن منه، وقيل‏:‏ معناه أيضا فهمه‏.‏ وهذا يصدق على الأخذ مشافهة، وعلى الأخذ من الكتب ويقال‏:‏ لقّنه الكلام‏:‏ ألقاه إليه ليعيده‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن هذه المعاني اللّغويّة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّعريض‏:‏

2 - التّعريض في الكلام‏:‏ ما يفهم به السّامع مراده من غير تصريح، في حين يكون التّلقين صريحاً غالباً‏.‏

ب - التّعليم‏:‏

3 - التّعليم‏:‏ مصدر علّم، يقال‏:‏ علّمه العلم والصّنعة وغير ذلك‏:‏ جعله يعلمها والفرق بين التّعليم والتّلقين‏:‏ أنّ التّلقين يكون في الكلام فقط، والتّعليم يكون في الكلام وغيره، فهو أعمّ من التّلقين‏.‏

الحكم الإجمالي

تكلّم الفقهاء عن التّلقين في عدّة مواطن منها‏:‏

تلقين المحتضر

4 - إذا احتضر الإنسان وأصبح في حالة النّزع قبل الغرغرة‏.‏ فالسّنّة أن يلقّن الشّهادة بحيث يسمعها لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لقّنوا موتاكم لا إله إلا اللّه» وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من كان آخر كلامه لا إله إلا اللّه دخل الجنّة»‏.‏

ولا يلحّ عليه في قولها مخافة أن يضجر، فإذا قالها المحتضر مرّة لا يعيدها الملقّن، إلا أن يتكلّم المحتضر بكلام غيرها، وهذا باتّفاق الفقهاء‏.‏

وفي المجموع نقلا عن المحامليّ وغيره‏:‏ يكرّرها عليه ثلاثاً، ولا يزاد على ثلاث‏.‏

ولا يسنّ زيادة ‏"‏ محمّد رسول اللّه ‏"‏ عند الجمهور لظاهر الأخبار‏.‏

وذهب جماعة من الفقهاء إلى أنّه يلقّن الشّهادتين بأن يقول الملقّن‏:‏ أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أنّ محمّدا رسول اللّه ‏"‏ ودليلهم‏:‏ أنّ المقصود تذكّر التّوحيد، وذلك لا يحصل إلا بالشّهادتين‏.‏

ويسنّ أن يكون الملقّن غير متّهم بعداوة أو حسد أو نحو ذلك، وأن يكون من غير الورثة، فإن لم يحضر غيرهم، لقّنه أشفق الورثة، ثمّ غيره‏.‏

التّلقين بعد الموت

5 - اختلفوا في تلقين الميّت بعد الموت، فذهب المالكيّة وبعض أصحاب الشّافعيّ والزّيلعيّ من الحنفيّة إلى أنّ هذا التّلقين لا بأس به، فرخّصوا فيه، ولم يأمروا به، لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لقّنوا موتاكم لا إله إلا اللّه» وقد نقل عن طائفة من الصّحابة، أنّهم أمروا به كأبي أمامة الباهليّ وغيره، وصفته أن يقول يا فلان بن فلان‏:‏ اذكر دينك الّذي كنت عليه وقد رضيت باللّه ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمّد عليه الصلاة والسلام نبيّا‏.‏ وقالت طائفة من الفقهاء لا يلقّن، إذ المراد بموتاكم في الحديث من قرب من الموت، وفي المغني مع الشّرح الكبير‏:‏ أمّا التّلقين بعد الدّفن فلم أجد فيه عن أحمد شيئا، ولا أعلم فيه للأئمّة قولا سوى ما رواه الأثرم، فقال‏:‏ ما رأيت أحدا فعل هذا إلّا أهل الشّام حين مات أبو المغيرة، جاء إنسان فقال ذلك‏.‏

وفي كلّ ذلك تفصيل، ينظر في ‏(‏موت، جنازة، احتضار‏)‏‏.‏

تلقين المقرّ في الحدود

6 - يرى جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - أنّه يسنّ للإمام أو لمن ينوب عنه أن يلقّن المقرّ الرّجوع عن الإقرار في الحدود درءا للحدّ، لما روي «أنّ ماعزا لمّا أقرّ بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالزّنى لقّنه الرّجوع، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ لعلّك قبّلت، أو غمزت، أو نظرت»، «وقال لرجل سرق‏:‏ أسرقت‏؟‏ ما إخالك سرقت‏؟‏‏}‏‏.‏ واختار بعض المالكيّة الأخذ بالاستفسار تعلّقا بما في بعض طرق الحديث الوارد في الزّنى‏.‏ وللفقهاء تفصيل ينظر في‏:‏ ‏(‏إقرار‏.‏ حدّ‏)‏‏.‏

تلقين الخصم والشّاهد

7 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجوز للقاضي أن يلقّن أحد الخصمين حجّته، لأنّه بذلك يكسر قلب الخصم الآخر، ولأنّ فيه إعانة أحد الخصمين فيوجب التّهمة، غير أنّه إن تكلّم أحدهما أسكت الآخر ليفهم كلامه‏.‏

8 - وأمّا بالنّسبة للشّاهد فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جواز تلقينه في الجملة، بل يتركه يشهد بما عنده، فإن أوجب الشّرع قبوله قبله، وإلا ردّه، وقال أبو يوسف‏:‏ لا بأس بتلقين الشّاهد بأن يقول‏:‏ أتشهد بكذا وكذا‏؟‏‏.‏

وجه قوله‏:‏ أنّ من الجائز أنّ الشّاهد يلحقه الحصر لمهابة مجلس القضاء فيعجز عن إقامة الحجّة، فكان التّلقين تقويما لحجّة ثابتة فلا بأس به‏.‏

مواطن البحث

9 - يتكلّم الفقهاء عن التّلقين في مواطن متعدّدة كالجنازة، والقضاء، والشّهادة،والإقرار‏.‏ وانظر التّفصيل في تلك المصطلحات‏.‏

تلوّم

التّعريف

1 - التّلوّم في اللّغة‏:‏ بمعنى الانتظار والتّمكّث‏.‏

وفي حديث عمرو بن سلمة الجرميّ‏:‏ وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح ‏"‏ أي‏:‏ تنتظر‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء لكلمة التّلوّم عن هذا المعنى‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

2 - ذهب الحنفيّة في المختار عندهم‏:‏ إلى أنّ المفتي يفتي يوم الشّكّ - الخواصّ بالصّيام تطوّعا، والعوامّ بالتّلوّم إلى ما قبل الزّوال، لاحتمال ثبوت الشّهر، وبعد ذلك لا صوم‏.‏ وفي أكل المتلوّم ناسيا قبل النّيّة تفصيل يرجع فيه إلى موطنه‏.‏ ولا يتأتّى ذلك عند جمهور الفقهاء، لأنّهم يرون وجوب تبييت النّيّة في صيام رمضان كما فصّلوه في موطنه‏.‏

كذلك تعرّض جمهور الفقهاء إلى الكلام على التّلوّم في النّفقات عند الكلام عن عجز الزّوج عن أداء النّفقة لزوجته، فذهب المالكيّة وهو الأظهر عند الشّافعيّة إلى جواز التّلوّم والإمهال، وفي كيفيّته ومدّته خلاف وتفصيل يرجع فيه إلى مصطلح ‏(‏نفقة‏)‏‏.‏

ويرى الحنابلة وهو أحد قولي الشّافعيّ عدم لزوم تأخير فسخ النّكاح في حالة ثبوت الإعسار وأمّا الحنفيّة فلا يتأتّى ذلك عندهم، لأنّهم لا يرون فسخ النّكاح بالعجز عن النّفقة‏.‏

نهاية الجزء الثالث عشر / الموسوعة الفقهية